مــَـــــوعد النــَّـــــــخ
بقلم
الأستاذة : حنكة حواء ـ الجزائر ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما إن يُقام العُــرس ؛ حتَى تستعـدّ بنَات
القرية العازبات لمَــوعد "
النّخ" ، فيه سَيتقرَّر مَصِيرهُن ، وسيَلتقيِن بفـَارس لمْ ترسمْه أحلاَمهن
، سِوى أنَّه على اختِلاف تفَاصيله سيشْبه ببَاطنِه آباءهن ، ذاك الرّجُــل الذّي يُغَــادر
قبيْل الفجْـــر( لرفْع الرَّمْلة
)* ، وبالضّحى يٌصفِّف جَــريَد النَّخِيل على حَــواف الكَثيب ، زوَالا بالوَاحة
يسْقِــي الزَّرع ، و ظهْرا يهتَمّ بالَماشيَة ، وليْلا يتربَّع ملكَا في منْزله الجبْسيَّ
المفتُوح ، يملأُ بطنَه ثريدًا ولبنًــا ثم يفتَرش الرَمل ، يتخبَّط خجِلا تحْت ردَاء
الظُّلمة بيْن زوجَة مُطيعَة وحبَّات رمْل مُشاكسَة تتمرّد أحيَانًا ، لتصِل حتَّْى
عينيه .
"حليمَة " بالثَّالثـة عشْــر،
لاشيْء يظْهر علَـى جسمْهَا ، يُوحي أنَها مُكتَملةْ الأنُوثة غير أنّ حدِيث أمّها
لهَا ؛ جعَلها ترَى نفْسَها بالثلَّاثين ، فكلمَّا حَاولَت اللَّعب مع الصِّبية نهَرتْهَا
( أنْدادِك إمعَرّسَات و جَايبَات
الذرّْ )* ، لتُأكّــد كلاَمها منَحتْها قَـــارورة من السَّمن البريّ قائلة
" اليُــوم النّـخ ، عدِّلي شَعْرك " ، أخذتْها مِــن يَــدهَا متذمِّرة
وغَادرتْ مَع رفيقاتها حيْث الكثْبَــان الرّملية ، ذكَرتْ " زينَة " أنَ
الرَّمل مَع السَّمن يُظهِر الشَّعْــر أكثَر كثَافة " أعجبْتهُنّ الفكْرة ، فظللْن
يمَرِّغن رؤُوسَهُن بالتُّراب يرْمِين ضَحكَات خجُولة بين الفينَة والأخْــــرى .
كَانت الليْلة مُقمِـــرة ، هكذا يخْتَار
أهْــل القريَة مَواعِيد أفْـــراحهم ، عبَق الهَــواء بالبَخُور وضُربَ (البنْديــر)* ، وجِيء بـ (المدَاح )*" سِي البَشِير"
، ابتدأ سَهرته بأغنيِة ( يا بنيّة العَرجُون ردي عليّ ... يالكَاملة بالزِّين يالسَوفيَة
) ؛ التفَّ حَولَه الشّباب يردِّدون معَه ،علَى أنَ كبَار السِّن تَمنّوا لَو ابتَدأ
ب ( اغْـــرُود عاليَة ....)
علَى ضوء لهيبِ النَّار الموقدة وصَوت المَدّاح
؛ بدأتَ الفتيَات بالنَّخ ، اقتَرب العزَّاب منْهُــنَ ،حامِلين بأيْديهم عطْرا لرشَّه
علَى مَن تعْجبُهم ، كَانت " حليمة " ترقبُهم من تحْت خصَلات شَعْرهَا الحبْلى
بالرَّمل ، فجأة ملئَت عينًها التي تتلصّص عطْرا ، صاحَت ( أأأأأأي )، كانَ المَدَّاح
ذاكَ الرجُل الخمسِيني الأرْمل من صبَّ على رأسِها كلَّ القارُورة إعجابا بهَا ،" (يا نحسِك يا حليمة ، واش درتي
)*، لا رجُوع عَــن الأمْر ، فما يقضِيه موعِد النَّخ ينُفَّـــذ ، لذا تقرَّرت
خطبتُها ، وعاهَدهم المَدَّاح " سِي البشير" أنَّه سيُغني الليلْة حتَّى
الفجر ،هديَّة منْه لأهْل العَريـــس مجَّانًا .
ظلّت "حليمَة " طُوال اليَوم
الذِّي تلَى شَاردة البَــال ، حتى إنهَا لمْ تعتَرض علَى كميَّة القمْح في الرَّحى
كمَا تفْعل دوْمًا ، ولا علَى جلْب المَاء مِن البئْر البعِيدَة ... فقط تحبِس الدّمع
خِشية أن تكتَشف أمّها ذلِك .
من بعيَد ظهَر " المدّاح " يسُوق
حمَاره ، حامِلا على ظَهره كيسًا من خيش ، لمَحَته أمها ، فنَادت ( يَا مرحَبا بالنَسِيب
) ، بعْد التَحيَة منَحهُم مهْــرها " (حولي أبيض ) *وعشْرة دنانير ، وحدّد الزّفاف بعْد أسبوع .
انكفَأت " حَليمة " على نفْسها
باكِية ، ستُزف بعْد أسبُوع لرجُل بعُمر والدِها ، كيْف ستتَعامل معَه وهِي لا تـــــعِ
مَا الزَّواج أصْلاً...؟! ، مرَّت الأيَّام سَريعا ، وجَاء الموْعِــد ، خضّبت الأمّ
يَــديْ ابنَتها بالحنَّاء وألبسَتها (الحُولي الأبيَض) ، ولأنها لازالَت صبيَّة صغِيرة
نَحيلة ، فَقد كَانت تتشَبَّث بالثَوب خَوفًا مِن سُقوطِه علَى الأرْض ، ف" خضرة"
رفِيقتُها حدثَ لهَا ذلَك ورأيْنها النسْوة عَاريَة.
دخَل "سي البشير" علَى
"حليمة" ، لمْ تَره كانَت تُخْفي عينيْها بيَديْها غَارقَة بدُمُوعِها ،
وكلَّما أحسَّت بقُربِه منْها زاد بُكاؤها حِــدّة وصَرخَت مُتعلِّلة بألَـم فِي بطْنها
، تعاطَف معَها وتَركَها ، نَام بعِيدا ليشْعِرَها بالأمَان وهُــو بدَواخِله يحْتَــرق
، لكنَّ الأمْــر زَاد عَــن حَدّه ، بَات يتكَرَّر كُلّ ليْلَـــة ، و الزَوْج رجُــل
أرمَل لا طَاقة لهُ علَى الصَّبر ، لذَا كَان بيْن أمَرين إمَّا تطْليقُها وإمّا انْتصَار
رجُولتِه ، الحلُّ الأوَّل كَان الأنجَع لطَالمَا امْتنَعت حتَى عَن الطَّعام ، زيَادة
علَى مَرضِها الدّائِم .
صبَاحا ... جمَع لهَا ثيَابَها في صُرَّة
،وأشَار لهَا أنْ ترْكب علَى ظهْر الحِمَار ؛ لم ينْطق بحَرْف ، ظَلَ طُوال الطَّريق
صَامتًا ، وهِي لــمْ تجْرُؤ علَى سُؤَاله ، بانَت لهاَ مِن بعِيد تبَاشِير قريتَها
، فهبَّت واقفَة ، نسِيَت أنَّها علَى ظهْر الحِمار فسَقطَت ، لمْ يهتَم لسقُوطها ،
ولا هِي انْزعجت ؛ كانَت تبْتَسم خُفيَــــة ...استقْبلتْهُم أمُّها ، فسَارع قائِلا
( بنتكم راهِــي مطلقة )
ثم غادر أيضًا بصّمت ، صَرخت الأمّ وولوَلت ( واشْ ايقُولوا عليّ النَّاس ) ، بينَما " حليمة
" جَرت مُسرعَة حيث أدَوات حِلاقة والِدهَا ، أخْرجَت شفْرة منْها ، وجلسَت برُكن
البيْت تحْلقُ شعْرَها، ثمُّ خَرجَت ضَاحكَّة للشّارع ، تقْفِــز ... تتباَهى أمَامَ
رفيقَاتها كَوْنها حليقة الرأس .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- شرح بعض المفردات العامية :
* رفع الرملة : يرفع العامل الرمل ليكون
النخيل عند زرعه قريب من الماء
* أنْدادِك إمعَرسَات و جَايبَات الذرّْ:
بمعنى مثيلاتك متزوجات وعندهن أطفال .
*البنديـــر: الدفّ.
*المداح : مغنّي بالأعراس أغلب ما يغنيه
عبارة عن مدائح .
*يا بنية العرجون ردي عليّ ... " يالكاملة
بالزين يالسَوفيَة " : مقطع من أغنية تراثية .
*إغرود عالية : مقطع من أغنية تراثية .
يا نحسِك يا حليمة : يا لحظك السيّئ يا
حليمة .
*الحولي الأبيض لباس تقليدي للعروس الألوان
الأخرى تلبس بالأيام العادية.
* بنتكم راهي مطلّقة : ابنتكم مطلَّقة
.
*واش ايقولوا عليّ الناّس : ماذا سيحكي
الناس عني .
بقلم : حنكة حواء ـ الجزائر ـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق