قالها ذلك النَّحْويُّ يَوْمًا ... الأستاذ : عصام علوش
قالها
ذلك النَّحْويُّ يَوْمًا : " أموتُ وفي نَفْسي شَيْءٌ من حَتَّى " ذلكَ في
النَّحْو العِلْمِ الجافِّ الَّذي يصعب هضمه عند الكثيرين ، وفي ( حَتَّى
) التي حَتَّتْ قلوب العلماء ..أمَّا في الأدب فقد رأيتُ أنَّ من حقِّ
الشِّعْر الأنْدلسيِّ عليَّ ألَّا أغادره دون أن أعرِّجَ على ذِكْرِ بعض
النِّساء الأندلسيَّات الشَّواعر الَّلاتي اشْتهرْن بالشِّعر ، ونُسِجَتْ
حَوْلَهُنَّ قصص العِشْق والحُبِّ والغرام ، لا أعني هنا ولَّادة بنت
المستكفي محبوبةَ ابْنِ زَيْدون التي جاهرت بقولها :
أنـا واللهِ أصْــلُــحُ لـلـمـَـعــــالــي وأمْشي مِشْـيـَـتي وأتِـيــهُ تِـيــهـا
أمَكِّنُ عاشِقي من صَحْنِ خَدِّي وأعْـطي قُـبـْلَـتي مَـن يـَشْتَـهـِيـها
فولَّادة هذه أضحت سِيرتُها على كلِّ لِسانٍ ، وسارت بذِكْرها الرُّكْبان ،
ولا أعني اعْتمادَ الرُّمَيْكِيَّةَ الَّتي أجازت بذكائها شَطْرَ بَيْتِ
المُعتمد بْنِ عباَّد : " نَسَجَ الرِّيحُ على الماء زَرَدْ " فأجابته على
الفَوْر : " أيُّ دِرْعٍ لقتالٍ لو جَمَدْ " فتزوَّجها وأصبحت آثرَ نسائه
لدَيْهِ ، فهذه أشْهَرُ من نارٍ على عَلَمٍ ، ولا أعني أمَةَ العزيز
الحُسَيْنِيَّةَ الشَّريفة البَلنْسِيَّة الَّتي قالت :
لـِحـاظُكـُمْ تَـجْـرَحُـنـا في الـحَشا ولَـحْـظُـنـا يَـجْـرَحُكُمْ في الـخُـدودْ
جُـرْحٌ بـجُـرْحٍ فـاجْــعــلـوا ذا بــذا فـمـا الَّـذي أوْجَـبَ جُـرْحَ الـصُّـدودْ ؟
فأمَةُ العزيز هذه مُقِلَّةٌ لا يتجاوز ما وصلَ إلينا من شِعْرها أصابعَ
اليَد ، وإنَّما أعني الشَّاعرة الأديبة الأريبة حفصةَ بنت الحاج
الغرْناطيَّة الرَّكونية الَّتي تفوَّقت في الحُسْن والجمال ، والحسَب
والمال ، وأُثِرَتْ عنها قصَّةُ حُبٍّ مشابهةٌ في كثيرٍ من تفاصيلها لقصَّة
ولَّادةَ وابْنِ زَيْدون ، فقد ارتبطتْ حفصةُ بالوزير الشَّاعر الكاتب أبي
جعفر أحمدَ بْنِ سعدٍ العَنْسيِّ بقصَّة حُبٍّ مُثيرةٍ حين اختيرت
مؤدِّبةً لنساء بني عبد المؤمن ، وشَدَوا في حُبِّهما هما الاثنان أجمل
الشِّعْر وأعذبه بعدما توالت بينهما اللِّقاءات ... هاهما الآن في بستان
يُدعى " حور مُؤَمّل " حيث الرَّوْض النَّضر والدَّوْح الباسق والأطيار
والعطر والسِّحر والجمال ينشدها الوزير العاشق :
رَعى الله لـيـْـلاً لـمْ يـُــرَعْ بـمُـذَمّـمٍ عَـشِـيـَّـةَ وارانـَــا بــحــــورِ مُــؤَمّــلِ
وقد خَفَقَتْ من نـَحْـوِ نـَجْـدٍ أريـجَـةٌ إذا نَـفَـحَـتْ جـاءتْ بـرَيَّـا الـقَـرَنـْفُـلِ
وغرَّدَ قـُمْـرِيٌّ على الـدَّوْحِ وانْـثـنى قضيبٌ من الرَّيْحانِ من فوْقِ جَدْوَلِ
يُرى الرَّوْضُ مسرورًا بما قد بَدا له عِــنــاقٍ وضَــمٍّ وارْتـشافِ مُــقَــبـَّـلِ
فتجيبه على الفور بأبيات تخشى فيها من أنَّ ساعات اللَّذَّة والوصال
لاتدوم ، وأن الغِلَّ والحسد قد يحيط بهما من كلِّ جانبٍ في الطبيعة :
لَـعَـمْـرُكَ مـا سُرَّ الـرِّيــاضُ بـوَصْـلِـنـا ولـكـنَّـهُ أبـدى لـنـا الـغـِلَّ والـحَسَدْ
ولا صَـفَّـقَ الـنَّـهْـرُ ارْتـِيـاحًا لـِقُـرْبــنـا ولا غـــرَّدَ الـقُـمـْــرِيُّ إلَّا لِـمـا وَجَــدْ
فلا تُحْسِنِ الظـنَّ الـَّذي أنـْتَ أهْـلُـهُ فـمـا هـو في كلِّ المَـواطِنِ بالرَّشَدْ
فـما خِـلـْتُ هذا الأفْقَ أبدى نُجومَهُ لأمْـرٍ سوى كَـيـْمـا
تـَكــون لـنـا رَصَــدْ ثم هي لا تتردَّد
في جُرْأةٍ عجيبةٍ أن تخيِّرَه ُوعلى عَجَلٍ بين زيارته لها أو زيارتها له ،
ليهنأ بثَغْرِها وظلالِ شَعْرِها :
أزوركَ أمْ تـَــــزورُ فــإنَّ قــلــبـــي إلى مـا تَـشْـتــهـي أبـَــدًا يـَـمــيــلُ
وقـد أمَّـلْـتُ أنْ تـَظْـمـا وتـَضْحى إذا وافـى إلــيـْـــكَ بـيَ الـمَـقــيـــلُ
فـــثـَــغْــرِي مَــوْرِدٌ عَــــذْبٌ زُلالٌ وفـَــرْعُ ذُؤابـَــتــي ظِـــلٌّ ظــلـــيـــلُ
فـعَـجِّـلْ بـالـجَـوابِ فـمـا جَـمِـيـلٌ إبــاؤكَ عـن بـُـثـَـيـْــنـَةَ يـاجَـمــيـــلُ
يُروى أنَّها جاءته يومًا في منزله وعنده بَعضٌ من أصحابه وجُلسائه فدفعَتْ إلى جاريته برُقعةٍ فيها هذه الأبيات :
زائــرٌ قــد أتى بـــجــيــــدِ غــزالٍ طــامـــعٌ مــن مُــحِـــبـِّـهِ بـالـوِصــالِ
بـلـحـاظٍ من سِحْرِ بـابـلَ صيـغـتْ ورُضـــابٍ يـَـفــوقُ بـــنـْــتَ الــدَّوالي
يَـفْـضَحُ الوَرْدَ ما حَـوى مِـنْـهُ خَـدٌّ وكـــذا الــثـَّـغْــــرُ فــاضِـــحٌ لـِـلَّآلـِـي
أتـُــراكُـمْ بــإذنـِهِ مُـسْـعـِـفِــيــــهِ أمْ لـكُــمْ شـاغِــلٌ مــن الأشْـــغــالِ
فلما قرأ الرُّقعة قال : هي حَفْصَةُ وربِّ الكعبة ، وخرج إلى الباب ، فلم يجدها ،فكتب إليها :
أيُّ شُغْـلٍ عن الـمُـحـبِّ يـَعــوقُ يـاصـــاحِــبًـا قـــد آنَ مـنـه الشُّــروقُ
صِلْ وواصِلْ فأنتَ أشْهى إلـيْـنـا مِـن لـذيـذِ الـمُـنى فـكَـمْ ذا نـَشْـوقُ
لا وَحُـبـِّيــكَ لا يـَطـيــبُ صَـبــوحٌ غِــبْــتَ عـنـه ولا يـَطــيــبُ غَــبـُـوقُ
لا وَذُلِّ الـجَـفـا وعِــزِّ الـتـَّــلاقـي واجْـتــمــاعٍ إلــيـْـهِ عــزَّ الــطــريـــقُ
وحين اشتدَّ بها الوَجْدُ والهُيام وعصَفَ بقلبها الشَّوْقُ والحنين واشتدَّتْ بها الغَيْرةُ عليه أرسلت إليه تقول :
أغــارُ عـليْـكَ من عَـيْـني ومِـنِّي ومـِـنـْـكَ ومـن زمــانـِـكَ والـمَـكــانِ
ولـو أنِّي خَـبـَـأْتـُـكَ في عُـيــوني إلى يـَـــوْمِ الـقِـيـامـةِ مـا كَـفـانـي
قلتُ لصديقي : أين الشَّبَهُ بين هذه القصَّة وبين قصَّة ولَّادةَ وابن زيدون ؟ فقال : كان من سُوء
حظِّهما معًا أنَّ أمير المؤمنين المنصور " عبد المؤمن بن علي " وقع في
حُبِّها هو الآخر أيضًا ، وأخذ يرصد حركاتِهما إلى أن أطاحَ بالوزير
العاشق وقتله ، فحدَّتْ عليه ولبست ثياب الحزن ، ثم هاجرت إلى المغرب حيث
كانت وفاتها في مرَّاكش سنة إحدى وثمانين وخمس مئة من الهجرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق