الدكتور : مصطفى شميعة .... اللغة العربية وأوهام التدريج
الدكتور : مصطفى شميعة
اللغة العربية وأوهام التدريج
بدأنا نسمع ونقرأ بين الفينة والأخرى أفكاراً عن لا جدوى العربية في تعليم
أبنائنا بل وفي مجالات الحياة الاجتماعية اليومية عامة. والحاصل أن هذه
الأصوات وبقدر ما تثير فينا الحسرة والامتعاض، فإنها تثير فينا أيضا الأسف
والشفقة، على أصناف من الدعاة المتنكرين، الذين نصبوا العداء للغة العربية،
بعدما تربوا في حضنها وقطفوا من ثمارها الكثير من المعارف، التي لم تسعفهم
كثرتُها في رد الجميل لها. ليسمح لي القارئ الكريم لأنطلق من السياق
الإيديولوجي الذي يحكم هذه الآراء التي باتت اليوم تنخر الذات العربية في
بعدها الحضاري والثقافي، وتهدد وجودها الكينوني ذاته، نقول هذا ونحن ندرك
بعمق خطورة الدعوة على تدريج اللغة وظيفيا، أي على المستوى التخاطب
الاجتماعي و الثقافي والسياسي والديني، وكذلك الإعلام بكل أنواعه، وأشكاله
التواصلية. فترسيم الدارجة من خلال التوجه في الإعلام إلى عموم المتلقين
بالعامية في نشرات الأخبار وفي كتابة المقالات على الصحف، وفي التواصل
الإشهاري والبرامج الاجتماعية، أصبح الآن أمرا ملحوظا، كما أن تقديم
البلاغات والخطب والمداولات السياسية بما فيها خطب الأحزاب والبرلمان بالغة
الدارجة، أضحى من الأمور الشبه معتادة، حتى إن اللغة العربية باتت اليوم
يتيمة بين أهلها. لكن هل تستطيع هذه الإستراتيجية بلوغ غايتها؟ هل يستطيع
التدريج الحلول محل اللغة العربية؟ وهل هذه الدعاوى قائمة على مشروعية
علمية رصينة؟
إن هذه الأسئلة تجد لدينا ما يبررها في مختلف التمظهرات
الاجتماعية، فالدارجة أصبحت اليوم تحتل جميع قنوات الاتصال والإعلام،
وأصبحت أيضا تُحاط بهالة من التبجيل من لدن مروجيها تسويغاً لوجودها الخطير
بيننا. نحن ندرك جيداً خطورة هذا التسويغ ليس على مستوى أبعاده الإجرائية،
بل أيضا على مستوى الترويج له من قبل زمرة من المستلبين ثقافياُ وهي
الفئة المنتسبة جوراً إلى المشترك الثقافي والتاريخي ، أي إلى الإطار
الواحد. إن هذه الفئة المغرضة تعيش وهماً إيديولوجياً استعمارياً، ظاهره
تبسيط التواصل وتسهيل أداته الأولى "اللغة"، وهذا ما قد يفهمه المواطن
العادي الذي لا يتعدى بإدراكه حدود الظاهر من الأشياء، وباطنه إضعاف اللغة
الفصحى وتحييدها عن الوجدان الجماعي العربي، ففي نظرهم فإن تجريد الإنسان
العربي من لغته، هو هدف يُمَكِّن من تجريده من حسه الديني باعتبار اللغة
العربية هي لغة القرآن الكريم. إن الخطورة تكمن هنا في الأبعاد
الإيديولوجية وفي الحروب الحضارية والثقافية التي تتعرض لها الذات العربية،
منذ مشاريع الإصلاح الأولى التي دعت إلى التشبث بالمقوم اللغوي، وأشعلت
بذلك الرغبة في النهوض العربي. فهل يمكن للغة العربية أن تعيش حالة الغياب
هذه؟ هل يمكن للدارجة أن تكون البديل في التداول الثقافي؟
أولا:
اللغة الدارجة ليست لغةً بالمعنى الحرفي للكلمة، إنها لهجة تُعرف بها
الجماعات اللغوية المنتسبة إلى الأحيزة المكانية المشتركة والمتعددة، وبذلك
تتعدد اللهجات، وتختلف بين الٌأقطار العربية، ناهيك بين جماعات القطر
الواحد. فدارجة الشمال ليس هي دارجة الجنوب، ولهجة الشرق طبعا ليست هي لهجة
الغرب. إن هذا واضح وجلي في كل الأقطار.
ثانيا: ترسيم الدارجة من خلال
تكريسها كنمط قار في التداول مسألة غير علمية، بالنظر إلى الأسباب
السالفة الذكر، لكن تكريسها كنمط للتداول الثقافي والتربوي والتعليمي، فهذا
قمة المسخرة، إذ نتساءل: كيف يمكن تدريس العلوم باللغة الدارجة؟ أين هي
المراجع المكتوبة بالدارجة التي ستسعفنا حتما في الإفادة العلمية، إن كانت
هناك إفادات علمية؟. أكيد أن الجواب عن هذا الأسئلة سيكشف عن عورات
الدارجة ونقائصها المتجلية أساسا في فراغ محتواها المعرفي والقيمي.
فالدارجة ليس لها رصيد علمي، ولا تراكم نوعي، يمكن من خلاله توصيل المفاهيم
العلمية والمقولات المجردة، وكيف للغة عامية يشترك في إيجادها الخاص
والعام من الناس أن تكون لغة علمية، أي تتوافر فيها شروط الدقة وآليات
الاستقصاء؟
ثالثا: الترويج للدارجة انتهاءً بتكريسها كلغة رسمية،
انتهاك لحرمة اللغة العربية ذاتها من جهة قدسيتها، ومن جهة كونها اللغة
التي فتح بها المسلمون مغالق المعارف والبلدان، فعلميتها وتاريخيتها هما
اللتان مدتاها بمقومات التفاعل مع مختلف المراحل التي مرت بها الأمة
العربية. فهل صنعت أمجادها باللغة العامية؟ هل بنت صرحها العلمي بالدارجة؟
إن التدريج سيخلق قطيعة ابستمولوجية بين حاضر الأمة وماضيها الثقافي، وهذا
طبعا في حالة إذا ما تم التقعيد له، - وهو عمل مستحيل منطقيا وإجرائيا -
سيحول الأمة إلى كيانات متقطعة الجذور، بل يمكن القول إن هذه الجذور ستصبح
بداية لغرس الأحقاد والكراهية.
نستطيع أن نستخلص أن التدريج يعكس إحدى
نوايا الإيديولوجية الاستعمارية، التي تمتد إلى قرون خلت، والتي كانت تسعى
إلى تطويع الشعوب العربية، لأنها كانت تدرك عمقها الحضاري والثقافي، لكنها
فشلت عسكريا بسبب بسالة هذه الشعوب. الآن يسهر أبناء الاستعمار وحفدته إلى
إتمام المشروع بأشكال جديدة وخطيرة، لأنهم أدركوا أن المساس باللغة
العربية والمطالبة بتعويضها بالدارجة في المجالات التداولية المختلفة هو
بوابة السيطرة على الهوية العربية، لكن هيهات فهذه مجرد أوهام.
د. مصطفى شميعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق